لا أعرف محمود رياض أول صحفى يموت بسبب كورونا.. وبالقطع يكفى شعورى بأنه زميل ينتمى لنفس المهنة كى يجعل حزنى مضاعفا.. إلا أن أسبابا أخرى كثيرة تضافرت مع تعاطفي الإنسانى معه كزميل زاد من إحساسى بالمرارة والألم والعجز.
جاء رحيل رياض بسبب كورونا ليكشف حجم الإهمال الذى كنا نتوقعه ولانملك سوى شكوك لإثباته.. لم نكن نقتنع كثيرا بكم التطمينات التي يحملها لنا المسئولون بأن كل شيء تمام وكله تحت السيطرة.. ولم نكن ننجرف وراء حملة الإتهامات باللا مبالاة والإستهتار والجهل التي تصوب لأولئك الذين ضربوا بكل إجراءات الحظر عرض الحائط لسبب بسيط، هو أن الدولة لو كانت أرادت الضرب بقوة على كل مخالف لقراراتها لفعلت.. فباعها الطويل في تلك الأمور يمكنها بسهولة من الحزم والسيطرة وفرض ما تراه من إجراءات بغض النظر عن اقتناع المحكومين بهذه القرارات من عدمه.. لكن للأسف جاءت متابعة تطبيق الحظر متراخية ضعيفة.. ثم جاء قرار مد ساعاته والسماح بفتح المولات والمطاعم في شهر رمضان ليزيد الطين بلة.
كان من الطبيعى أن تزداد حالات الإصابة في مصر، فمن البداية وقرارت الحكومة تأتى متأخرة بخطوات سواء في إقدامها على غلق المطارات أو في تعاملها مع المواقع التي تظهر فيها الإصابات مثلما حدث في معهد الأورام، والذى لم تطبق قرار إجراء تحاليل على كل المرضى المترددين عليه خلال الفترة التي ظهرت فيها إصابة أحد الطواقم الطبية بالفيروس، بينما إلتزموا فقط بغلق المعهد للتعقيم واهتموا بتوفير الملابس الوقائية للأطباء والممرضين، وربما تكون تلك هي الحسنة الوحيدة بعدما توالت حالات سقوط الطواقم الطبية التي شهدتها العديد من المستشفيات والتي جاءت لتزيد من الإحساس بالقلق والغضب من عدم توفير الحماية اللازمة لتلك الطواقم لتجعلها في مواجهة الفيروس بصدور مفتوحة، مفتقدة لأبسط قواعد الضمان والتأمين والحماية.. فى الوقت الذى لاتتوانى فيه الدولة عن مد يد المساعدة وتوزيع المعونات للدول الأخرى، في تناقض بدا غريبا وغير منطقى ومرفوض مهما كانت دوافعه السياسية المبررة له.
تناقض آخر جاء محيرا لفت إنتباه ونظر منظمة الصحة العالمية والتي لم تتوقف عن الإشادة بدور مصر في التعامل مع فيروس القرن، لكنها لم توقف أيضا التساؤل عن السبب في زيادة حالات الوفاة مقارنة بأعداد الإصابة المعلنة!
السبب كما كان يعرفه الجميع أن الحكومة لا تجرى التحاليل والمسحات المطلوبة لاكتشاف حالات الإصابة على نطاق واسع واكتفت فقط بالحالات المشتبه فيها.
لكن ما كنا نتجاهله ونأبى الإعتراف به، أن تلك الحالات المشتبه بها أيضا لم تكن تحظى باهتمام أو رعاية، وكثيرا ماتصل متأخرة بعدما تتدهور ويتكمن منها الفيروس فتكون اقرب للتسجيل في خانة الوفيات، منها لتلك الخاصة بالمتعافين من كورونا.
ما كنا نتجاهله لأننا لانملك دليلا عليه، جاء موت الزميل الصحفى محمود رياض ليكشف بشهادته عن الإهمال والتقاعس واللا مبالاة التي يتعرض لها المصابون بالفيروس.
كتب رياض على صفحته على الفيس بوك تلك الشهادة قبل أيام من وفاته، دون أن يدرى أن تلك الكلمات ستحدث دويا مؤثرا، وتمد آخرين بالدليل على الإهمال يساعدهم في المطالبة بالقصاص ومساءلة ومعاقبة كل المقصرين، والذى يدفع إهمالهم لدفع أرواح بريئة ثمنا لذلك الإهمال.
لم يهتم أحد برياض ولم يستطع إجراء المسحة اللازمة لاكتشاف الإصابة إلا بعد رحلة عذاب طويلة، وبعدما تمكن من اجتيازها جاءت النتيجة غير صحيحة بعد يومين من إجرائها وليس دقائق كما هو معروف في كل دول العالم على نحو ما كتب في شهادته، ويومان آخران كان عليه إنتظارهما حتى تظهر نتيجة المسحة الثانية ورغم إيجابيتها وتأكيد إصابته لكورونا لم يتمكن من دخول مستشفى العزل إلا بعد مرور يومين آخرين بعدما تكرمت المستشفى بإرسال سيارة الإسعاف وبعد جهد وضغط من نقابة الصحفيين لإنقاذ رياض.
للأسف كان الموت أسرع إليه من بطء الإجراءات اللا إنسانية العقيمة. دفع حياته ثمنا للإهمال، بينما يتربص الخطر بثلاثة من أطفاله انتقلت إليهم عدوى الفيروس بينهم طفل رضيع لتجعل مأساة الزوجة والأهل مضاعفة.. شفاهم الله.
من المؤكد أن مأساة رياض وأسرته لم تكن بالحالة النادرة، بل العكس هو الأقرب للتصديق والمنطق.. فقط هي الحالة التي نعرف تفاصيلها ونملك الدليل على إدانة المتسببين في نتائجها الكارثية، وهو ما دفع الزميل حسام السويفى لتقديم بلاغ للنائب العام مطالبا بمعاقبة المسؤولين الذين تسببوا بإهمالهم في أن يدفع رياض حياته ويضع أطفاله في تلك الحالة من الخطر، ويمزق قلب زوجة بين فجيعة فقد الزوج وجزع مميت على مصير فلذات الأكباد.
أسرة رياض ليسوا أول ضحايا الإهمال ولن تكون أخرها، إذا لم تغير الحكومة من أدائها في التعامل مع الفيروس، وتبدى جدية أكبر في تطبيق إجرءاتها الإحترازية وإهتماما أكبر بسلامة طواقمها الطبية، ورعاية أكبر وأسرع للحالات المشتبه فيها وسرعة تقديم الخدمات العلاجية لها. أما غير ذلك فتكون أقرب لتطبيق ما يطلق عليه "مناعة القطيع" تلك السياسة اللا إنسانية التي تواطأ حكام العالم لتطبيقها بقلب ميت وبلا رحمة ليضيفوا إلى سجلات جرائمهم البشعة مزيدا من الإجرام والبشاعة.
نهاية الكوكب المعرض للإبادة لم تنجح في شحذ المشاعر الإنسانية.. حقا إنها لا تعمى الأبصار، لكن تعمى القلوب التي في الصدور.
------------------------
بقلم: هالة فؤاد